الحمد لله رب العالمين.. له الحمد في الأولى والآخرة.. وله الحكم وإليه ترجعون.. سبحانه عز كل ذليل.. وقوة كل ضعيف.. وغوث كل ملهوف.. من عاش فعليه رزقه.. ومن مات فإليه منقلبه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. رب الأولين والآخرين.. وقيوم السموات والأرضين.. ومالك يوم الدين.. لا خير إلا في طاعته.. ولا عز إلا في التذلل لعظمته.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فتح الله بدعوته الآذان الصم، والأعين العمى، والقلوب الغلف، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفي بالله شهيدا.
نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة ولم يدع بابا من أبواب الخير إلا دل الناس عليه، ولا طريقا من طرق الشر إلا حذر الناس منه.
فنسأل الله العظيم الذي رزقنا الإيمان به في الدنيا ولم نره أن يرزقنا يوم القيامة صحبته، وأن يجعلنا من أهل شفاعته وأن يدعونا من خلقه يوم يدعوا كل أناس بإمامهم.
اللهم صلى وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته وسار بسيرته إلى يوم الدين.
أولا : فساد البشرية قبل البعثة النبوية :
أما بعد أيها الأخوة الأحباب المسلمون، فقد أرسل الله تبارك وتعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الدار وقد فسدت أخلاق الناس، وعظمت مشاكل القوم، وضلت عقولهم فعبدوا الأصنام التي نحتوها بأيديهم، وتاه فيهم الحق فاستبد الظالم بالمظلوم، وعاث المتكبر في الأرض فسادا.
كان الناس قبل حبيب الله صلى الله عليه وسلم كان الناس أصناما من البشر، تعبد أصناما من الحجر، كان الظالم يفخر ويفتخر بقدرته على الظلم، ويعلن أنه سيظل يظلم إلى آخر قطرة من دمه وآخر يوم في عمره.
كان الشعراء يتفاخرون، تتفاخر كل قبيلة على أختها، فيكون من مظاهر الفخر القدرة على الظلم، حتى قال قائلهم:
بغاة ظالمون فما ظلمنا ولكنا سنبقى ظالمين
يقول عن نفسه وعن بنى عمومته، يقول: نحن بغاة ظالمون وما أحد يستطيع ظلمنا، ولكنا سنبقى ظالمين.ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطيناإذا بلغ الفطام لنا رضيع تخر له الجبابر ساجدين
ويقول الآخر:ومن لم يزد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم أي: إما أن تكون ظالما، وإما أن تكون مظلوما.
الحياة في ظل هذه الأجواء حياة قلقة مضطربة، كانت تقوم الحروب وتحصد شباب العرب لأتفه الأسباب، فقامت حرب من أجل ناقة وقامت حرب من أجل كلبا، قتلت الحروب من شباب القبائل العربية الكثير.. فأين كانت عقول القوم؟ وأين كانت أفهامهم؟ هذا هو السؤال المحير.
الأمة التي يقتل من أبناءها الآلاف من خيرة شبابها من أجل أن ناقة فلان نزلت في أرض فلان! فأين الرشيد في هؤلاء الناس، بل الأمة التي تصنع أصنامها وتنحت أصنامها، بيدها ثم تضع الأصنام وتقدم لها القرابين من دون الله، فالعاقل يسأل: أين العقل؟ أين الرشاد؟!
أمة كان البغي عنوانها والظلم شعارها، وكانت الحياة فيها حياة مضربة، حياة آثمة، الناس بين ظالم ومظلوم، بين متكبر وضعيف، بين سيد وعبد، فلا الظالم يرق قلبه فيعطى المظلوم حقه، ولا المظلوم ينتفض فيطالب بحقه، أشرب الذليل الذل في قلبه واستبد المتكبر بسلطانه.
ثانيا : بعثة النبي صلى الله عليه وسلم آية الإصلاح الكبرى :
هكذا كانت تمضى الحياة، إلى أن أراد الله لهذه الدنيا أن يبيض وجهها، ولهذه الحياة أن يتنضر جبينها، وإلى أن أذن الله لهذا الليل ليتولى ليتبعه صبح الإيمان؛ فإذا به تبارك وتعالى يخرج إلى البشرية خير رسول، وينزل عليه أعظم رسالة.. جاء الحبيب صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يتصور أن الناس سوف يردون الخير الذي جاءهم به، أو يمتنعون من قبول الحق الواضح، وهكذا دائما أصحاب العقول الرشيدة، يتعجبون من محاربة الناس عندما يأتونهم بشيء فيه مصلحة لهم، ولذلك حينما قال له ورقة بن نوفل حينما عرض عليه أمر جبريل حين أتاه في أول الوحي، قال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل على موسى وإنك نبي هذه الأمة، ثم قال: ليتني كنت فيها جزعا إذ يخرجك قومك. فاستغرب النبي صلى الله عليه وسلم أو يأتي إنسان للناس بمصباح الظلام ثم يردونه؟!، أو يأتي للناس بأسباب الخير ثم يخرجونه؟!، قال: أو مخرجي هم؟!، قال: نعم، ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي في قومه، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، هذه طبيعة الباطل.. الباطل لا يطيق أن يرى الحق ولا أحدا من أهل الحق، يقول ربنا جل وعلا عن سيدنا صالح النبي الصالح، وعن الذين وقفوا له بالمرصاد، جاء صالح ليحارب الفساد، وكان هناك مجموعة مفسدة في الأرض غير مصلحة،
وهنا يستنفر أهل الفساد قوتهم لحرب الصلاح وحرب أهل الحق، يقول المولى عز وجل: يقول: (وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)(النمل: 48 )أي حلف بعضهم لبعض بالله أن يقتلونه هو وأهله وهم في بيات، أي أن مهمة هؤلاء القوم الذين يفسدون ولا يصلحون التخلص من المصلح ؛ لأن بقاءه من وجهة نظرهم يعنى زوال الأجواء التي يستفيدون منها ولهذا بيتوا قسما بالله فيما بينهم على أن يقتلوه (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)، وهكذا كان كل الأنبياء، والحبيب صلى الله عليه وسلم أتى برسالة النور، وهناك فئة تحب أن تعيش في الظلام، أتى برسالة الإصلاح، وهناك فئة تحب أن تعيش في أجواء الفساد، أتى بالهداية، وهناك فئة تريد أن تعيش في أجواء الضلال والغواية.
ثالثا : إصلاح النفوس بداية إصلاح الكون :
أدرك الحبيب صلى الله عليه وسلم بتوفيق ربه، أن الإصلاح لا يمكن أن يبدأ إلا من داخل النفس، ولابد أن يصحح القلوب أولا: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، الذي يبدأ الإصلاح بإصلاح النفوس هو الذي يضع المفتاح في موضعه، وبذلك يفتح له.
هكذا فهم النبي صلى الله عليه وسلم ، تريد أن تفتح البشرية لا بد أن تتوجه أولا إلى نفوس الناس، فإن أصلحتها وإن عدلتها فكل ما يأتي بعد ذلك هين سهل. الناس يشربون الخمور ويحبون الخمور، ويشربون في شرب الخمور، فلا يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم رسالته بأن يقول: لا تشربوا الخمور، فلم يحدث؛ لأن العرب كانوا يشربون الخمور ويتفننون فيها، لدرجة أن العربي كان يوصى أهله إذا مات أن يدفنوه بجوار شجرة من الكرم أو العنب؛ لترتوي عظامه من العنب، يقول الشاعر:إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروى عظامي بعد موتى عروقها ولا تدفنني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها فماذا يفعل النبي مع هذه النوعيات، كان لابد أن تبدأ البداية من النفس، أن يعرف الناس لماذا نحن موجودون في هذه الحياة؟ ألا ترى يا أخي أن كل من يدخل هذه الدنيا يخرج منها؟ .. هل سمعت بأحد خلد في هذه الدنيا؟.. إذا.. بعد الدنيا آخرة، فهل تدرى ما في هذه الآخرة؟ فيها : بعث وحشر وجزاء وحساب، جاء النبي صلى الله عليه وسلم يقول للناس هذا، هل أنت متخيل أنه لا يراك أحد.. لا ..
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) وأنه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)، رب العزة سبحانه وتعالى أنه في هذه الحياة يقيم علينا شهودا لا سبيل لنا إلى الفكاك من شهادتها، وأول هذه الشهود: الأرض التي تعيش عليها، فهذه الأرض تسجل كل خطواتك وأعمالك، يقول المولى عز وجل: ( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) (الزلزلة: 1-4) قالوا يا رسول الله، فما أخبارها؟ قال: تحدث عن كل نفس بما عملت عليها.
رابعا :الإيمان الحساب واليوم الآخر دافع كبير إلى إصلاح النفوس :
والسماء أيضا شاهدة، تراقب أعمالك، بل الكون كله يراقب أعمالك، بل هناك شاهد آخر، ملائكة كرام كاتبون لا شغل لهم في هذه الحياة إلا مرافقتك من حيث لا تراهم يكتبون الحسنات والسيئات، يقول الله تبارك وتعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ويقول: ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ)، فهؤلاء يدونون كل شيء تفعله.فيا أيها الإنسان، لا تتخيل أنك تعيش بمفردك، فمعك حراس يكتبون تفاصيل أعمالك التي تعملها، يقول الله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ).
وليس الملائكة فقط ولا الأرض فقط ولا الكون فقط، بل أنت أيضا تشهد على نفسك، يقول الله عز وجل: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ويقول: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فهذه اليد التي ترتكب بها ما ترتكب، هي نفسها تقف يوم القيامة وتتحدث بما صنعت وبما فعلت، هذه العين التي نظرت بها، هي نفسها التي تتكلم بما رأت، هذه الأذن التي سمعت بها هي نفسها تنطق بما سمعت، هذه الرجل التي مشيت عليها، هذا اللسان الذي نطقت به.
فهب أنك فعلت هذه المعصية أو خالفت أمر الله في شدة الظلام، وفي ظلمة الليل؛ حيث لا ترى عين ولا تسمع أذن، وكانت المعصية قلبية بحيث لا ينطق بها اللسان ولا تشعر بها اليدان والرجلان، فهذه المعصية يسجلها الجلد، ولا مفر من هذا الجلد، ومن فضل الله ومن معجزات الله في هذا الجلد، أنه لا ينام وإن نام صاحبه، فإذا أراد شخص أن يوقظك يلمس جلدك، ووظيفة هذا الجلد أنه يسجل عليك خلجات نفسك، فإذا فرحت يظهر على جلدك ويضئ وجهك، وعندما تحزن يبدو أيضا على الجلد، ويعبث الوجه وربما تعرق.إذاً أول ما جاء الإسلام جاء ليقول للناس:يا عباد الله أنتم تحت بصر الله وسمعه، فالأرض التي نسير عليها ترانا والسماء ترانا والملائكة وأسماعنا وأبصارنا وجلودنا وأيدينا وأرجلنا، وفوق هذا كله، الله عز وجل، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الله .. يعلم السر وأخفي.. فأين تهرب منه؟
لذلك.. يحكي الحبيب صلى الله عليه وسلم عن بعض أهل الكفر والنفاق الذي كان الدنيا يتخذ اليمين والقسم والحلف بالله، سببا للكذب على الناس.. فسيأتي يوم القيامة ليجد الأرض تشهد عليه والملائكة معها صحائف مكتوبة، فيقسم بالله أنه ما فعل هذا.. فيقول له الله: ياعبدي ماذا تريد؟، فيقول: يا رب أنا لا أقبل على نفسي إلا شاهدا مني.. فيقول الله عز وجل: لك ذلك، ويختم على فمه، ويأمر اليد فتنطق بما فعلت، والعين فتنطق بما رأت، والأذن فتنطق بما سمعت، والرجل فتنطق بما مشت، وهكذا تنطق كل أعضاء الإنسان بكل جرائمه، ثم يخل الله بينه وبين الكلام، ويقول لأعضائه: بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أجادل.
ويجد العبد شهادة الجلد مليئة بالتفاصيل المثيرة، فيقول لجلده: (لم شهد على)، ففي الآية : (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ).
جاء الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم بهذه العقيدة .. جاء ليقول للناس: أيها الناس، أنتم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى، والحقيقة أنك عليك رقباء فارجع إلى ربك.
خامسا : المساواة بين الناس عامل من عوامل إصلاح النفس :
جاء الحبيب : لينادى في الناس.. أيها الناس: كلكم لآدم وآدم من تراب. فيا أيها المتكبر، ابن من أنت، يا أيها الظالم.. ابن من أنت.. أليس الكل من آدم، هذه الأنساب التي يتفاخر بها الناس، آخر النسب هو من .. أليس آدم؟
أليس آدم هو أبو الأحمر والأصفر والأسود والأبيض، أليس هو أبو الناس أجمعين؟.. إذا علام تتفاخرون.
الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول:"أوحي إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد،ولا يبغى أحد على أحد".جاء الحبيب صلى الله عليه وسلم ليقول للناس: أصلحوا هذه النفوس. وقف أمامه رجل يفتخر على رجل آخر، فقال: أنا فلان بن فلان، فمن أنت لا أم لك؟.. فقال: أنا ابن الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن رجلين اختصما على عهد موسى عليه السلام ، فقال أحدهما للآخر: أنا فلان بن فلان بن فلان، حتى عد تسعة من آباءه، فمن أنت لا أم لك؟، فقال أخوه: أنا فلان بن الإسلام، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن هذين المتخاصمين، أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار أنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين ففي الجنة أنت ثالثهما.
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليمحو قضية القبلية والعصبية، جاء ليقول للناس: راجعوا أنفسكم، كلكم لآدم، لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، جاء صلى الله عليه وسلم ليعالج هذه النفوس، جاء ليقول للناس: أيها الناس، أنتم تعيشون في ملك الله فلا تعبدوا إلا الله.
سادسا : استجابة النفس للإصلاح فيها تحقيق لإصلاح المجتمع :
بدأت النفوس تسمع هذا وتذكر ما أعد الله للصالحين وما أعد للمفسدين وما في الجنة وما في النار وما بعد الحياة، فبدأت نفوس الناس تهدأ وبدأ الفساد ينسل من النفوس انسلالا، وصارت القبائل العربية التي كانت تتحارب لأتفه الأسباب،صار المسلم بعد أن عمر الله قلبه بالإسلام، يؤثر إخوانه على نفسه، وذلك بعد إصلاح الإسلام النفوس، يجعل المسلم يبيت جوعان ليطعم صاحبه، يموت عطشان ليسقى أخاه، فهذه نقلة عجيبة من فرد يقاتل أخاه من أجل ناقة أو كلب، ومعركة تقوم لأتفه الأساب،إلى فرد يموت وفي حاجة لشربة ماء فيقدم شربة الماء لأخيه لينقذ حياة أخيه، من فرد ظالم ومتكبر إلى أمير للمؤمنين ورئيس للأمة يبكى ويقول: "والله لو عثرت بغلة في بلاد العراق لخشيت أن يسألني عنها الله لم لم تسو لها الطريق"، فإلى هذا الحد صلحت النفوس.الحاكم بأمره .. أمير المؤمنين صاحب الكلمة العليا، قلبه يرق لحيوان يمشى في العراق، فضلا عن الناس وعن البشر.
حدث أن النفوس تغيرت وصلحت، وبدأت تتجه الاتجاه الصحيح، وحينما تتغير النفوس تتغير معها كل معادلات الحياة. وإذا وجد المؤمن الصحيح وجدت معها كل مقومات الحياة. يقولون (أن العدل في نفس القاضي وليس في نص القانون)، لأن القاضي العادل يتحرى في القانون مواطن العدل حتى لو كان القانون جائرا، والقاضي الجائر يكون النص واضحاً أمامه ويلتمس ثغرة لكي يجور في حكمه، وهذا واضح بين الناس.المشكلة ليست في هذه الظواهر، المشكلة في النفس التي هي في حاجة إلى إعادة بناء، والمشكلة ليست في الفقر بالنسبة للذي يأكل مال غيره، الذي يجور على ميراث أخته، الذي يعيش بالباطل، الذي يأكل الربا ، فهو غير فقير يريد أن يسد فقره، وإنما نفسه فاسدة؛ ولهذا لا تشبع، ولو كان له واد من ذهب لابتغى ثانيا، ولو كان له واديان لابتغى ثالثا، إنما لو النفس صلحت؛ لو الدنيا كله بين عينيه، لا يمد يده إليها طالما ليست من حقه.
سيدنا عمر ر ضي الله عنه جالس تحت الشجرة، فإذا رجل جاء من بلاد فارس من جيش سيدنا سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه، يسأل عن سيدنا عمر رضي الله عنه ، الرجل ثيابه مرقعة، ومعه كنوز من قصر كسرى ومن قصور الأكاسرة، كنوز من الأموال، ويأتي في الطريق من المدائن في العراق، إلى المدينة وحده ومعه كل هذه الكنوز، دون أن يفكر وهو الذي يلبس الثوب المرقعة في أن يمد يده إلى شيء منه، فسيدنا عمر رضي الله عنه أعجب، وقال: والله إن قوما أدوا هذا لذووا أمانة، قال: يا أمير المؤمنين: عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا، الناس على دين ملوكهم، الناس عندما صلحت نفوسها فلا يمد عينه إلى حرام ولا يمد يده إلى حرام، ولا يأكل حرام، ولكن عندما تفسد النفوس .