الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
تمر المنطقة العربية والإسلامية الآن بظروف قاسية، وتقع فيها أحداثٌ مزلزلةٌ، ويعاني أهلُها من مشكلات جمَّة، يمثِّل فيها أصحابُ المشروع الصهيوني الأمريكي التحديَ الأكبرَ، والمعتديَ والباغيَ المستمرَّ على شعوب هذه المنطقة، ولا يخفَى على أحد الدورُ الإجراميُّ الذي يقوم به الصهاينةُ المدعومون بكل أنواع الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري الأمريكي، فهم يُثيرون الفتنَ والدسائسَ في كل بلاد المنطقة، ويُريقون دماء الفلسطينيين صباح مساء، يمارسون في حقِّهم كلَّ صنوف التصفية والطرد والإبادة، ولا يلتزمون بعهدٍ ولا ميثاقٍ، ولا ينفِّذون اتفاقًا ولا وعدًا.. ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ (البقرة: من الآية 100).
وغنيٌّ عن البيان أيضًا ما تقوم به أمريكا بقوَّاتها، من تدميرٍ للعراق، ومن سفكٍ لدماء أبنائه، ومن وقيعةٍ بين طوائفه وأهله؛ حتى بات القتلُ والذبحُ والاعتداءُ على الأعراض يهدِّد العراق الوطن، شعبًا ودولةً وحكومةً وطوائفَ وأجناسًا، وفي الوقت ذاته يبذل الأمريكيون المتطرِّفون في إدارة بوش كلَّ ما في وسعهم لاستكمال غزو المنطقة بالثقافة والسيطرة والسلاح؛ حتى عمَّت البلوى، وظهَر الفساد، برعايتهم في كل بلد حلُّوا به، كما هو الحال في أفغانستان، وفي كل قُطرٍ استهدفوه، كما في العديد من بلدان المنطقة، فهم الشرُّ بعينه، وهم بيت الداء، وأصل البلاء، ومصدر الوباء ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ (البقرة: من الآية 217).
ورغم هذه الأجواء الملبَّدة بغيوم الكراهية والحقد الصهيوني الأمريكي هبَّت شعوبُ المنطقة لمقاومة الغازي المحتل والباغي الأثيم، ففي العراق الآن شعبٌ يقاوم.. نعم هو يدفع ثمنًا باهظًا لكي يمتلك إرادتَه ويؤسِّس دولتَه، إلا أنه أوجَعَ الأمريكان في قلوبهم، وأحدَث الرعبَ والخوفَ في نفوس جنودهم، فأصبحت خسائر الغزاة بالآلاف.. ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾ (النساء: من الآية 104).
وبسبب هذه المقاومة الباسلة والتضحيات العظيمة- مع ما في القلبِ من ألمٍ وحسرةٍ نتيجةَ الاقتتال الداخلي بسبب طائفيةٍ قديمةٍ بغيضةٍ يؤجِّجها المحتل المجرم بسبب ضربات هذه المقاومة واشتداد ساعدها يومًا بعد يوم- تراجعت القواتُ الغازيةُ، وتراجعت معها مواقفُ شعوبها وحكوماتها، فها هو الكونجرس الأمريكي يضغط لمنع بوش- سفَّاح هذا العصر- من الاستمرار في غيِّه ومراجعة مواقفه وإعادة النظر في صلفه وكبره وغروره، وسيُجبَر في النهاية بفضل الله- ثم بالمقاومة الصادقة- على التراجع والفرار، وما أدلَّ على ذلك من جولاتِ وزيرة خارجيته المتكررة الفاشلة؛ لإثارة الفتنة في المنطقة ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ (القمر: 45).
وها هي الحكومة البريطانية وبضغط شعبي وبرلماني تقرِّر سحْبَ قواتها من العراق، لا حبًّا في أهل العراق ولا رأفةً بهم، وإنما هو انهزامٌ وتراجعٌ ومحاولةٌ لوقف نزيف الخسائر لجنودهم، والله لهم بالمرصاد!!
وفي فلسطين اهتزَّت أركان الدولة الصهيونية المعتدية، واهتزَّ معها الدور الإجرامي الذي تمارسه الإدارة الأمريكية بسبب المقاومة الباسلة والتضحيات الغالية التي قدمها- وما زال يقدمها- الشعب الفلسطيني البطل من دمه ومن رجاله ونسائه وأطفاله، ولقد رأى العالم كله السياسة الجائرة الظالمة التي يمارسها أعضاء مجموعة الرباعية ضد الفلسطينيين والكيل بكل مكاييل الظلم غير المعقولة.
ومع ذلك فإن الموقف الروسي الآن بدأ في الانحياز ولو بعض الشيء إلى جانب حقّ الشعب الفلسطيني، وقد يكون ذلك مع تنامي دور الصين وإيران، ومع ثبات المقاومين الشرفاء في كافة الفصائل الفلسطينية، وصمود حكومة حماس المنتخبة.. قد يكون ذلك من عوامل حدوث بعض التوازن في النظر إلى المشكلة الفلسطينية ووضع الدولة الصهيونية، التي تحاول دائمًا أن توجِد حالةً من الاضطراب والفوضى وتؤجِّج النيران وتُشعل الفتن وتسعى الآن جاهدةً إلى إشعال حرب عالمية لا تُبقي ولا تذر ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ﴾ (المائدة: من الآية 82).
وعلى مستوى حكومات الدول في المنطقة فإن الاضطراب وعدم الثبات في المواقف ومحاولة تطبيق سياسة إمساك العصا من المنتصف قد ظهرت، وكان معها إيجاد محاور عدة حول فلسطين والعراق، وباتت هذه الحكوماتُ أقربَ إلى حالِ الأيتام على موائد اللئام، وهي تجني بذلك ثمارًا مُرَّةً من الضغط والتهميش والابتزاز والتخويف من قِبَل الصهاينة والأمريكان؛ لأنها لم تحرص على الالتحام مع شعوبها والتصالح مع أبناء وطنها على هدف واحد، وهو تحقيق مصالح أوطانها، بل مارست ظلمًا وجورًا وعنفًا ضد هذه الشعوب من أبناء جلدتها ودافعي الضرائب فيها، فانزَوَت وتشرذَمَت وضَعُفَت وهَانَت على أعداء هذه الأوطان، فضلاً عن هوانها على نفسها، وبذلك يسهُل على جرَّافات الأعداء أن تدوسَها وذئابِ الصهاينةِ والأمريكانِ أن تأكلَها كما فعلت بأسلافها، وما زالت الأمثلة واضحةً وماثلةً لكل ذي بصر وبصيرة.
إن هذا التراجع في مواقف الغزاة والمعتدين الصهاينة والأمريكان، وهذا الاضطراب والقلق والخوف الذي ينتاب الكثير من حكَّام المنطقة من أعدائها ومن شعوبها.. يقابله وعيٌ ينمو لدى الشعوب، وحركةٌ إيجابيةٌ داخل الأوطان، ومقاومةٌ واعيةٌ لثقافة الغزو والظلم والبغي ولقوات المعتدي الآثم، وتستمر هذه المقاومة بكل أنواعها وتزداد وتقْوَى وتثبُت وتصمُد، فتراق دماء الشرفاء في مواجهة الاحتلال، ويُعتَدَى على أعراض النساء، ويُضطَّهَد الأبرياء، ويُعتقَل الرجالُ الأوفياءُ للدين والوطن، ولكن كل ذلك لا يفتُّ في عضدهم، ولا يؤثر بالسلب أبدًا على تقدُّمهم نحو أهدافهم، ولا يجرفهم أبدًا عن طريقهم ودعوتهم الخلاَّقة الواعية المتوازنة بالحكمة والموعظة الحسنة ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139).
إن هذه الصورة الواضحة وهذه الحالة البيِّنة تُمثِّل ما صارَ إليه وضْعُ المنطقة العربية والإسلامية، فعدوانٌ وبغيٌ من الأعداء، وظلمٌ وجَورٌ من الحكَّام، ومقاومةٌ وصمودٌ وتضحيةٌ وثباتٌ وصبرٌ واحتسابٌ عند الله من الشعوب والأبناء، ولا تزال الصورة هكذا، وينمو فيها مؤشرُ نجاح الشعوب، ويتراجع فيها منحنى الغزو والعدوان والظلم، والله يرقب ويسمع ويرى، ولا يُضيع سبحانه أجرَ العاملين المخلصين، والمقاومين الشرفاء المضحين، وسينصر جندَه، ويُعزُّ حزبَه، ويُظهر الحق، وسيزول الباطلُ ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ (الروم: 4، 5) ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء: 81) ) ﴿وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾ (النساء: من الآية 104).
فيا شعوب المنطقة.. ويا أبناء العرب والمسلمين.. عليكم بالمقاومة والوحدة، فكونوا يدًا على من سواكم، ولا تضعوا أيديَكم في يد الصهاينة ولا الإدارة الأمريكية المتطرفة، واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرًا.. إن مع العسر يسرًا، وأن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: من الآية 227) ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ (إبراهيم: 42).
فلنَجِدَّ ولنجتهدْ ولنَثبُت مهما كانت التضحيات، فالاعتدال منهجُنا، وسنةُ محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه والسلف الصالح من بعدهم طريقُنا، والقرآن دائمًا في أيدينا وعقولنا وقلوبنا، والصبر عنوان المرحلة ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: من الآية10)، والله ينادينا من فوق سبع سماوات لننصت ونعي ونطمئن ونعمل، وإنها لإحدى الحسنيين﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ (فصلت:30- 31).
وليكن شعارنا دائمًا قول الحق تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173)، ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُوْنَ﴾ (يوسف: من الآية 21).
والله أكبر ولله الحمد
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين.