خطبة (الماء سر الحياة) الجمعة 19/4/1429هـ
الحمد لله الذي أنزل من السماء ماء بقدر، نقيا من الشوائب والكدر، فأحيا به البوادي والحضر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، خلق من الماء البشر، وعلم عدد ذرات الرمل والمطر .. {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي جِماع الخيرات، وينبوع البركات، ومصدَر الرحمات، ونور الظلمات، وسببُ الرّقِيّ في علوّ الدّرجات، والأمانِ من الدّركات، وتكفيرِ الذنوب والسيّئات، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (.
أتحدث إليكم اليوم عن نعمة عظيمة .. نعمة من أجل نعم الله، بل هي سر من أسرار الحياة .
في أحد الأيام، دخل ابن السَّمَّاك على الخليفة هارون الرشيد، فاستسقى الخليفة فأتي بكوب من الماء، فلما أخذه قال له: على رسلك يا أمير المؤمنين، لو مُنِعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله تعالى. فلما شربها قال: أسألك: لو مُنِعْتَ خروجَها من بدنك، بماذا كنت تشتري خروجها؟ قال: بجميع ملكي. قال: إن ملكا قيمته شربة ماء وإخراجها، لجدير أن لا ينافس فيه، فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا .
نعم يا عباد الله .. إنها نعمة الماء، سر الحياة، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ). فلولا الماء ما كان إنسان وما عاش حيوان وما نبت زرع أو شجر .. الماء هو غذاء الكائنات وحياتُها؛ وبفقده تذبل وتموت، ترى الأرض هامدة يابسة مغبرة منكمشة ، فإذا نزل عليها الماء تحركت فيها الحياة وتلألأت بالخضرة والنضارة، (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ).
ولأهمية الماء قدر الله تعالى له نظاماً وسنناً في الحياة؛ فقدر له جل وعلا سنناً تجعله سحباً طائرة، وسنناً تجعله قطراتِ مطرٍ متساقطة، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ).
فإذا نزل المطر جعل الله له سنناً تحفظه في مستودعات في جوف الأرض (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ )، ثم جعل له سنناً تدفعه في سيقان الشجر وأغصانها فيما يسمى بالخاصة الشعرية، وسنناً أخرى تجعل من الماء أنهاراً جارية، وعيوناً متفجرةً، وبحاراً تغمر الآفاق وتمتلىء بالأسماك والكائنات مما لا يعلمه إلا الله الذي يعلم ما في البر والبحر .
ويشكل الماء سبعين بالمئة من مساحة اليابسة ، ويشكل أيضاً سبعين بالمئة من وزن الإنسان ، وقد ذكر الله تعالى الماء في القرآن الكريم منكراً بلفظ "ماء" ثلاثاً وثلاثين مرة، و ذكره معرفاً بلفظ "الماء" ست عشرة مرة .
ووصف الله الماء بأنه مبارك أي كثير الخير، فقال الله تعالى : (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّات وَحَبَّ الْحَصِيدِ) .
هذا الماء الذي نراه كانت له سيرة حافلة في التاريخ، فكم كان نعمة ورحمة لقوم، وكم كان عذابا ونقمة لآخرين .
أما كون الماء نعمة ورحمة: فالماء العذب أفضل شراب، وأعظم صدقة، وماء المطر رحمة الله لعباده، وكان الماء رحمة للمؤمنين يوم بدر حينما ثبت الله بالمطر أقدام النبي( عليه الصلاة والسلام ) وأولياءه المؤمنين .
وأما كون الماء عذاباً ونقمة: فالماء جند من جنود الله جعله الله طوفاناً وعذاباً على قوم نوح، فعم الأرض وعلا قمم الجبال، ولم ينج منه إلا نوح عليه السلام وأصحابُ السفينة .. وجعل الله الماء عذاباً لسبأ، التي كان أهلها في نعمة عظيمة، فأعرضوا عن أمر الله، فأرسل عليهم سيل العرم، فانهار السد واجتاح الماءُ بلادَهم واجتث زروعَهم وثمارَهم .
وأما في التاريخ الحديث فلا يزال العالم يشهد أنواعاً من الفيضانات والمدود والزلازل، ومن أشهرها زلزال تسونامي المائي، وأمواج المد البحري التي نتجت عن هذا الزلزال، والتي سارت من المحيط الهادي إلى المحيط الهندي بسرعة ألف كيلو متر في الساعة ، وبلغ ارتفاعها من عشرة أمتار إلى أربعين متراً .. أمواج قادرة على إغراق ناقلات النفط من البواخر العملاقة ، ولو سارت على اليابسة لحطمت القطارات وسكك الحديد ، واقتلعت الجسور ، وأطاحت بالمنشآت ، ودمرت المدن بأكملها .
ومن العقوبات المتعلقة بالماء، ما يبتلي الله به عباده من نقص الأمطار وجفاف المياه، بتأخر نزول الماء أو نقصانه في الزروع والثمار والبهائم، أو نقص منسوب المياه الجوفية، نشكو إلى الله أحوالنا، ونستغفره من ذنوبنا .
كم استسقينا هذا العام فلم نسق المطر بسبب ذنوبنا؟! .
شكا رجل إلى الحسن رحمه الله الجدب ونقص الماء فقال له: استغفر الله، و شكا إليه آخر الفقر فقال له: استغفر الله. و قال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً. فقال له: استغفر الله. و شكا إليه آخر جفاف بستانه. فقال له: استغفر الله. فقال له جلساؤه في ذلك، واستغربوا تكرر جوابه، فقال الحسن: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ". و هذا نداء هود عليه السلام لقومه: "وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ".. نعم، إذا كثر الاستغفار في الأمة، و صدر عن قلوب بربها مطمئنة؛ ساق الله تعالى لها أنواعاً من النعم، ودفع الله عنها ضروباً من النقم .
عباد الله .. هل استشعرنا حقاً قدر الماء؟
نفتح الصنبور أو الحنفية، فينهال علينا الماء عذباً فراتاً بكل سهولة، فهل استشعرنا نعمة وجوده؟ هل استشعرنا نعمة حلاوته وعذوبته، وأنه ليس بملح أجاج؟ أم أننا بسبب ألف وجود الماء وتوفره نسينا قدر هذه النعمة؟
وأنت لو نظرت في بعض البلاد المنكوبة في أفريقيا وغيرها، لرأيت إخواناً لك وأطفالاً يموتون يومياً بسبب الجفاف وعدم وجود الماء العكر!! فضلاً عن الماء العذب الزلال.
عبدالله.. إذا أردت أن تعرف قدر الماء، فتخيل معي فقد لهذه النعمة ولو لزمن يسير، فمن أين لك بالماء؟ وصدق الله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) .. (أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) .
تذكر يا عبد الله أن نعمة الماء إحدى النعم التي ستسأل عنها يوم القيامة، ((ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ))، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( عليه الصلاة والسلام ) : "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي الْعَبْدَ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيَكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ" رواه الترمذي وصححه الألباني .
وإن من تمام التوحيد والاعتراف بنعمة الله، أن يكون موقف المؤمن من الماء والمطر كما ورد في الحديث القدسي في الصحيحين: يقول اللهَ عز وجلَّ : (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي ، وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ ؛ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي ، وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ) .
جعلنا الله وإياكم من المعترفين بنعمته، العاملين بها في طاعته، ونسأله تعالى المزيد من فضله، إنه جواد كريم .
الخطبة الثانية
عباد الله، من المسائل الهامة المتعلقة بالماء: الاقتصاد وعدم الإسراف:
إن شكر الله تبارك وتعالى على نعمة الماء لا يقتصر على الشكر باللسان، بل يتعداه إلى الشكر بحسن التصرف فيه وحسن استغلاله، والاقتصاد والترشيد في استعماله، فأي إسراف في استعمال الماء هو تصرف سيء، وسلوك غير حميد، جاء النهي عنه صريحا في القرآن المجيد، في قوله تعالى: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ )) .
وقد كان ( عليه الصلاة والسلام ) من أشد الناس محافظة على الماء حتى في العبادة، ففي الصحيحين عن أنس (رضي الله عنه ) قال: (كان النبي ( عليه الصلاة والسلام ) يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد)، والمد ملء اليدين المتوسطتين .
وروى ابن ماجه أن النبي ( عليه الصلاة والسلام ) مر بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار . والحديث في سنده ضعف، ومعناه صحيح .
- ومن المسائل المتعلقة بالماء: المحافظة على نظافة وطهارة الماء، فإن مصادر المياه من أنهار أو بحار أو آبار يجب أن يتعاون الجميع في سبيل إبقائها نظيفة نقية، فعن جابر -رضي الله عنه- عن النبي ( عليه الصلاة والسلام ) : (أنه نهى أن يبال في الماء الراكد) رواه مسلم، وعن معاذ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ( عليه الصلاة والسلام ) : (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل)، رواه أبو داود وحسنه الألباني، والمراد بالموارد مواردُ المياه.
- ومن المسائل المتعلقة بالماء: ما جاء في أحاديث كثيرة من تحريمِ منع فضل الماء، وأن الناس شركاء فيه، وتحريمِ تعذيب الإنسان أو الحيوان بالحرمان من الماء، وقد جاء في حديث المرأة التي دخلت النار بسبب هرة، أنها منعتها الطعام والشراب .
- ومن المسائل: مشروعية سقاية الماء، وهي من أفضل الصدقات، فعن سعد بن عبادة (رضي الله عنه ) أنه أتى النبي ( عليه الصلاة والسلام ) فقال: أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: الماء. رواه أبو داود وحسنه الألباني .
وانظر إلى موسى عليه السلام لما سقى لابنتي شعيب ودعا ربه، (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) فإذا به بين عشية وضحاها، يتحول من إنسان طريد شريد ، إلى إنسان ناجٍ آمن.. ومن شاب أعزب، إلى شاب متزوج.. ومن رجلٍ خائف يترقب، إلى رجل واثق مطمئن .. بعد أن قام بهذا العمل الصالح ودعا بتلك الدعوة المباركة.
ويروى عنه ( عليه الصلاة والسلام ) كما عند الترمذي (من سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعليقا على الحديث: يعني لو كان ولدك الصغير وقف عند البرادة يقول لك: أريد ماء، وأسقيته وهو ظمآن، فقد سقيت مسلماً على ظمأ، فإن الله يسقيك من الرحيق المختوم . أجر كثير ولله الحمد، غنائم، ولكن أين القابل لهذه الغنائم؟ أين الذي يخلص النية، ويحتسب الأجر على الله عز وجل اهـ .
اللهم صل على محمد ...
اللهم أعز الإسلام والمسلمين .... / اللهم آمنا في أوطاننا
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تدع فينا ولا معنا شقيا ولا محروما. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.اللهم إنا نسألك أن ترزقنا لسانا صادقا ذاكرا، وقلبا منيبا خاشعا ، وعملا صالحا زاكيا، وعلما نافعا رافعا، وإيمانا راسخا ثابتا، ويقينا صادقا خالصا، ورزقا حلالا طيبا واسعا، يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، وأصلح قلوبنا ، وارحم ضعفنا ، وتولَّ أمرنا ، واقبل توباتنا ، واستر عوراتنا ، وآمن روعاتنا، وآمنَّا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، وانصرنا على أعدائك وأعدائنا، وبلِّغنا فيما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا .
اللهم أنت الله ... اللهم اسقنا من فيضك المدرار، واجعلنا من الذاكرين لك في الليل والنهار، المستغفرين لك بالعشي والأسحار. اللهم أنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من خيرات الأرض، وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا يا ذا الجلال والإكرام. ... ربنا آتنا في الدنيا حسنة ...
موقع طريق الدعوة