جاءت الأزمة المالية العالمية لتلقي بأثرها الذي لم يقتصر على البلد التي تفجرت فيه وهى الولايات المتحدة الأمريكية. بل امتدت لدول العالم في ظل كون الأسواق العالمية قرية متناهية الصغر، وإن اختلفت درجة تأثيرها من دولة لأخرى وفقا لارتباطها بأسباب الأزمة، من : خسائر، وإفلاس، وبطالة، وهبوط بورصات، وتقلب وتراجع أسعار، وفقر، وركود وكساد. ولم تقتصر تلك الآثار على الاقتصاد المالي بل انتقلت أيضا إلى الاقتصاد العيني، وامتد تأثيرها إلى عقر مؤسسات العملي الخيري وفي مقدمتها مؤسسات الزكاة التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالمجتمع من حيث جمع الأموال وإنفاقها.
وقد صرح مدير عام صندوق النقد الدولي (دومينيك ستراوس كان) في 5/9/2009 - أي بعد نحو عام من انفجار الأزمة المالية - بأن : "الاقتصاد العالمي في سبيله إلى الخروج من أسوأ أزمة مالية واقتصادية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ولكن التعافي سيكون بطيئا ، وأن تحسن أوضاع البطالة لا يزال محفوفا بالمخاطر ومن الممكن أن يستمر ارتفاع البطالة في عام 2010". كما توقع في تصريح آخر له - في 23 أكتوبر 2009 - أن يبدأ الاقتصاد العالمي بالانتعاش أواخر العام 2009 بدلاً من النصف الأول من 2010 حسب مؤشرات صندوق النقد الدولي الراهنة. وأوضح أن الانتعاش قد يبدأ قبل النصف الأول من عام 2010 في أواخر 2009. وأضاف أن أحدث توقعات الصندوق تظهر أن النمو العالمي قد يبلغ 3% في العام المقبل بعد انكماش بنسبة 1% في 2009.
وقد نتج عن الأزمة المالية خسائر فادحة للمؤسسات والأفراد ، وقد قدر رئيس صندوق النقد الدولي (دومينيك ستراوس كان) الخسائر الناجمة عن الأزمة المالية العالمية بنحو 3.4 تريليون دولار، كما تشير التقديرات إلى أن الدول النامية خسرت 750 مليار دولار من جراء الأزمة المالية العالمية، منها 50 مليار دولار في غرب أفريقيا فقط، نتيجة الانخفاض الحاد في الصادرات ، خاصة الصادرات البترولية والسلعية ، وتحويلات العاملين بالخارج ، والاستثمار الأجنبي المباشر خاصة في قطاعي السياحة والعقارات. وقدرت جامعة الدول العربية خسائر الدول العربية من جراء الأزمة المالية العالمية بنحو 2.5 تريليون دولار.
وقد أدت الأزمة المالية العالمية إلى تراجع معدلات النمو ، نتيجة لانخفاض الناتج المحلى الإجمالي ، وهو ما أدى إلى حالات من الركود تحول بعضها إلى الكساد. ومن المتعارف عليه أنه في حالة زيادة معدل النمو الاقتصادي ومن ثم الرواج يقل عدد المحتاجين ، حيث ينعكس النمو الاقتصادي بشكل مباشر وغير مباشر على دخل الأفراد والمؤسسات ، وييسر من جمع أموال الخيرات، بينما يصعب ذلك في حالات الركود والكساد. فموارد العمل الخيري تزداد مع زيادة النمو الاقتصادي في حالة الرواج، وفي الوقت نفسه فإن استخدامات أموال العمل الخيري تزداد مع انخفاض النمو الاقتصادي ، ووقوع الاقتصاد في براثن الركود والكساد.
وهذا أمر طبيعي فمؤسسات الزكاة والعمل الخيري تعتمد أساسا على ثروات الأفراد والمؤسسات كمصدر لتمويل أعمالها وبرواج أعمالهم تزداد ثرواتهم ودخولهم ومن ثم يزدهر العمل الخيري ، والعكس صحيح ، فركود وكساد أعمالهم يؤثر سلبا على ثرواتهم ، وبالتالي يؤثر سلبا على حصيلة مؤسسات الزكاة .
وإذا سلمنا بأن خسائر الدول العربية من الأزمة المالية العالمية 2.5 تريليون دولار وفقا لتقديرات جامعة الدول العربية ، فهذا يعنى انخفاض في إيرادات الزكاة بأكثر من 62 مليار دولار ، وهو ما يؤثر على الجانب التمويلي لمؤسسات الزكاة ، ومن ثم المستفيدين منها.
ورغم ما تتضمنه الأزمة المالية من مخاطر لمؤسسات العمل الخيري بالحيلولة دون قدرتها على الوفاء بمسئوليتها تجاه المستفيدين من العمل الخيري ، فإنها تشتمل أيضا على العديد من الفرص لتلك المؤسسات. فهي فرصة سانحة لمؤسسات الزكاة والعمل الخيري لإعادة تقييم سياساتها ، وإدارة مخاطرها ، وتعزيز التخطيط لاستراتيجيات طويلة الأجل، والبحث عن مصادر مستدامة للتمويل بدلا من الاعتماد على المصادر الآنية والقصيرة الأجل، وترشيد المصروفات، مع تعزيز المورد البشري الكفء الأمين.
والأزمة المالية فرصة لمؤسسات الزكاة والعمل الخيري للبحث عن شرائح جديدة لتمويل العمل الخيري من خلال التركيز على الأفراد عن طريق برامج الاستقطاع الشهري الميسر ، مع تفعيل الوقف الخيري وتنويع الوعاء ، وزيادة أعداده حتى لو بمبالغ ضئيلة خاصة في أوقات الرخاء.
كما أن الأزمة المالية فرصة لمؤسسات الزكاة والعمل الخيري لمواساة ومتابعة من عجز عن دفع زكاته بل وتفعيل سهم الغارمين، فمن عرف طريقه لدفع الزكاة أحق أن تراعيه مؤسسات الزكاة حال غرمه ، وأن يحس بقيمة الضمان الاجتماعي الرباني.
كما أن الأزمة المالية فرصة لمد جسور التعاون والترابط بين الحكومات ومؤسسات الزكاة والعمل الخيري من خلال زيادة الدعم الحكومي للعمل الخيري، وهي أحد الآليات التي تزيد الإنفاق الخاص مما ينعكس إيجابا أيضا على الطلب الكلي. ولعل في تطبيق زكاة الركاز على النفط والغاز ملاذا يحقق الأمن المادي والمعنوي والقضاء على الثالوث المدمر في بلاد الإسلام الفقر والمرض والجهل قضاء مبرما.
وأخيرا فإن تصريحات رئيس صندوق النقد الدولي بأن الاقتصاد العالمي في سبيله إلى الخروج من الأزمة المالية العالمية ، ولكن التعافي سيكون بطيئا ، مع توقعه زيادة نسبة البطالة تعكس حقيقة أن نهاية الأزمة لم تقترب بعد ، خاصة وأن البطالة في أصلها أزمة ، وهي سلاح فتاك لا يبقي ولا يذر. وإن كانت تلك التصريحات تمثل قيمة مضافة لقيم الإعجاز الاقتصادي للزكاة، فرغم تأثر إيرادات الزكاة سلبا بالأزمة المالية إلا أنها خير وسيلة لتحفيز الاستثمار ، والخروج من نفق الركود والكساد ، وعلاج مشكلة البطالة من جذورها. فالزكاة تحفز الإنفاق وترفع من معدلات الطلب الكلي ، وفي الوقت نفسه يمكن تحويلها إلى أداة إنتاجية لمستحقيها ، بتأهيلهم للعمل ، وتوفير الأصول الإنتاجية اللازمة لهم، وهو ما يصب في نهاية المطاف في وعاء تحفيز الاستثمار، وتنمية الأصول الرأسمالية المنتجة في المجتمع.