- تحرير سعر دقيقة المحمول.. ظاهره الرحمة وباطنه العذاب
- خبير اتصالات: "المصرية للاتصالات" تلفظ أنفاسها الأخيرة
- د. شريف قاسم: عزوف المواطنين عن الخطوط الثابتة كارثة
- النائب تيمور عبد الغني: سياسة رفع الأسعار إهدار للمال العام
- د. جهاد صبحي: المجاملات خربت منظومة الاقتصاد المصري
تحقيق- إيمان إسماعيل:
يطالعنا الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات في مصر بين الحين والآخر بفكرة جديدة، سرعان ما تصبح قرارًا فوق رءوس المواطنين لا مفر من تطبيقه، حتى لو كان القرار الجديد يتنافى أو يتعارض مع القرارات التي سبقته.
ففي الوقت الذي أعلن فيه الدكتور طارق كامل وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات عن ضرورة تنظيم "كعكة" الاتصالات بعد اشتداد وطيس المعركة بينه وبين شركات المحمول الثلاثة، وتهديداته التي أطلقها ضد تلك الشركات تتوعدهم بعقوبات رادعة، إذا لم تتخل عن سياسة حرق الأسعار التي تمثلت في خفض التعريفة إلى 5 قروش للدقيقة، ملوحًا بإصدار قوانين تضع تلك الشركات تحت رقابة مشددة حتى لا يكون المستهلك هو الفريسة واللعبة التي يتقاذفونها ويتلاعبون على جيوبه كيفما شاءوا.. تراجع وزير الاتصالات عن تلك التهديدات وفاجأنا بإعلانه عن تحرير سعر دقيقة المحمول، بدءًا من 1 يناير 2010م، وإطلاقه الحرية للعروض ولتسعير شركات المحمول الثلاثة في إطار المنافسة الحرة، عن طريق إخطار الجهاز بالعروض قبل الإعلان عنها بـ24 ساعة، مبررًا ذلك بأن سوق المحمول وصلت في مصر إلى مرحلة من النضج والاستقرار، خاصة بعد مرور فترة ثلاث سنوات على تشغيل الشبكة الثالثة للهاتف المحمول في عام 2007م.
ورغم مرور أيام معدودة على تطبيق قرار تحرير سعر الدقيقة، إلا أن المعارك بين الشركات المحمول الثلاثة أصبحت على أشدها، وكلٌّ منها تتنافس في تقديم عروض جديدة يوميًّا، فابتكرت في إعلاناتها وجددتها؛ حيث غمرت شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد للفوز باستقطاب أكبر عدد من المستهلكين إلى جعبتها.
ومن المعروف أن مصر تحتل المرتبة السادسة بين الدول الناشئة في مجال خدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، في الوقت الذي يملك 60% من سكان مصر هواتفًا محمولة، مع توقعات بارتفاع هذا الرقم إلى 75%، في غضون عامين.
وفي ظل سيطرة سوء الأوضاع على المحتكر الوحيد للهواتف الأرضية الثابتة "الشركة المصرية للاتصالات"، واستمرار حالة الجمود بها مع تلك المنافسة الشرسة لشركات المحمول الثلاثة؛ دفع آلاف من المواطنين إلى قطع اشتراكات هواتفهم الأرضية لارتفاع القيمة المالية وسوء الخدمات؛ حيث اعترفت الشركة المصرية للاتصالات بتناقص أعداد الهاتف الثابت، مقابل ارتفاع الهاتف المحمول، معللةً ذلك بأن تلك الظاهرة منتشرة على مستوى دول العالم؛ بسبب المنافسة الشديدة مع شركات المحمول.
وأكد المهندس محمد عبد الرحيم نائب رئيس الشركة في جلسة سابقة للجنة النقل والمواصلات بمجلس الشعب خطورة الأوضاع التي تهدد المنافسة بين شركات المحمول والمصرية للاتصالات، وأن التناقص في عدد الهاتف الثابت من قِبل المشتركين بدأ مع عام 2008م وبداية 2009م، وأن التناقص وصل إلى 1.6 مليون خط؛ بسبب عدم سداد الفواتير.
يأتي هذا بالرغم من العروض الأخيرة التي قدمتها الشركة من إلغاء مصاريف التركيب لمدة شهر، وتخفيض قيمة المكالمات من الأرضي للمحمول بنسبة 50% لمدة شهر، إلا أنه لم يرق للمنافسة في ظل جمود وغلاء أسعار الخدمات الأساسية التي تقدمها الشركة.
وفي السياق ذاته، كشف نائب رئيس الشركة المصرية للاتصالات وجود خلافات حادة بين الشركة المصرية للاتصالات وشركات المحمول والتي وصلت إلى المحاكم؛ بسبب العروض التنافسية، بعد أن وصلت سعر المكالمة من الثابت إلى المحمول إلى 5 قروش للدقيقة.
هل تعيش سوق الاتصالات حالة من الفوضى وتخبط القرارات؟ وما تأثير ذلك على المستهلك؟ وما مدى تأثره بقرار تحرير سعر دقيقة المحمول؟ وتأثير ذلك أيضًا على أرباح الشركة المصرية للاتصالات، ومن ثمَّ على الاقتصاد المصري؟.
لعبة الاحتكار
في البداية يقول الدكتور علاء الدين بركات أستاذ هندسة الاتصالات بجامعة القاهرة إن آخر الصيحات التي طالعتنا بها الحكومة في قراراتها المتخبطة كانت متمثلة في تحرير سعر دقيقة المحمول، والذي يعني عدم وجود أي سقف لشركات المحمول الثلاثة في تحديد أسعارها، مشيرًا إلى أن هذا القرار يحمل جانبين أحدهما سلبي والآخر إيجابي؛ فالإيجابي أنه سيصب في مصلحة المستهلك؛ بسبب التنافس الذي تتسارع فيه الشركات الثلاثة لتقديم أوفر الخدمات والعروض حتى تجذب أكبر عدد ممكن من المستهلكين.
أما الشق السلبي فيتمثل في احتمالية لجوء شركات المحمول الثلاثة في مصر مقدمًا إلى استغلال المستهلك ورفع الأسعار لحد يفوق الخيال ويفوق استطاعة المستهلك؛ بعد الاتفاق المسبق فيما بينهم على توحيد أو تقارب الأسعار، حتى يضعوا المستهلك بذلك في مأزق؛ بحيث يكون ذلك السعر المرتفع هو السائد في الشركات الثلاثة، وفي نفس الوقت يكونوا قد حققوا أرباحًا طائلة في وقت لا يستطيع المستهلك الاستغناء فيه عن المحمول.
ويؤكد د. بركات أن تأثير ذلك القرار على الشركة المصرية للاتصالات سيكون قويًّا لأبعد مدى، وسيجعلها تلفظ أنفاسها الأخيرة، إذا لم تقبل الدخول في المنافسة وتطوير خدماتها؛ لإقدام شركات المحمول في ظل ذلك القرار على تقديم العديد من العروض الجذابة بتخفيض أسعار دقيقة المحمول داخل الشبكة الواحدة أو بين شبكات المحمول الثلاثة، مشيرًا إلى أن ذلك سيؤدي بدوره إلى إحجام المستهلكين عن استخدام الهاتف الثابت.
ويشدد د. بركات على أن المصرية للاتصالات يجب عليها سرعة اللجوء إلى العديد من الوسائل حتى تبقى على قيد الحياة، في ظل تلك الفوضى العارمة التي غطت حركة الاتصالات في مصر، والتي يراها متمثلةً في ضرورة ارتقاء الشركة إلى التنافسية من إلغاء مصاريف التركيب، وإلغاء اشتراك الخواص، مثل خاصية إظهار رقم الطالب، وتسعير المكالمات بين المحافظات بالسعر العادي، فضلاً عن ضرورة إلغائها لنظام المحاسبة الحالي وفقًا للأسعار العالمية؛ حيث إن نظام المحاسبة الحالي أعلى مما هو موجود بالدول الأوروبية، وجعله بالدقيقة وفقًا للأسعار العالمية، وإلغاء نظام الفواتير وجعله ببطاقات الشحن مثل المحمول، ملمحًا إلى أن ما سيساند الشركة في ذلك هو اعتمادها في إيراداتها على خدمات البوابة الدولية (المقدم الوحيد لخدمة الاتصالات الدولية)، بالإضافة إلى إيراداتها من شركة (تي إي داتا).
غياب الشفافية!
ويرى الدكتور شريف حسن قاسم أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة وأمين عام شعبة الاقتصاد بنقابة التجاريين، أن الحالة الوحيدة في الاقتصاد المصري التي يوجد بها سوق منافسة حقيقية منذ ظهوره في عام 1997م إلى عامنا الحالي هو (سوق الهواتف المحمولة) في مصر، مشيرًا إلى أن التضارب في تصريحات وزير الاتصالات والقرارات المتخبطة للحكومة أصبح الآن أمرًا طبيعيًّا؛ لعدم وجود مصداقية وشفافية بين الحكومة والمستهلكين، لأنها دائمًا لا يوجد لديها تفسير توضحه للمواطنين لأي تحرك حكومي تقدم عليه أو قرار جديد تصدره.
ويشير د. قاسم إلى أن الحكومة طوال الفترة الماضية كان دورها الأساسي والأوحد هو حماية الشركة المصرية للاتصالات بكافة الأشكال؛ من أجل أن تكون هي المحتكر الأساسي في السوق؛ ما جعل قرارها بتحرير سعر الدقيقة متأخر جدًا، وبعد تخبطات عديدة في الرؤى.
ويوضح د. قاسم أنه على الرغم من أن ذلك القرار في ظاهره يحقق مصالح المستهلك لما فيه من قلة التكلفة ووفرة في الفواتير النهائية له، ما يؤدي إلى وجود فائض لديه على المستوى الشخصي يستطيع إدخاره، الا أن ذلك القرار في طياته يحمل العديد من الخفايا التي من المتوقع فيها انفراد إحدى الشركات الثلاثة بالسوق، ملمحًا إلى العبء الأكبر والدور الكبير المطَالب به جهاز حماية المستهلك في ذلك الشأن.
كعكة المحمول!
ويؤكد د. قاسم أن لجوء العديد من المواطنين إلى إلغاء خطوطهم الثابتة والاستغناء عنها تمامًا، يجعل موقف الشركة المصرية للاتصالات في انحدار، ويؤثر بشكل كبير في مسارها لعدم استطاعتها المواءمة في ظل تلك المنافسة الشرسة بين شركة المحمول الثلاثة، والتي اعترف على إثرها نائب رئيس الشركة عماد الأزهري أن وجود 55 ألف موظف بالشركة مع تناقص أعداد المشتركيين سيؤدي إلى لجوئهم لتسريح عدد كبير من العمالة والاستغناء عنهم، مشيرًا أن ذلك بدوره سيؤدي إلى انخفاض أرباح الشركة، والتي تقارب أسهم الحكومة فيها بـ17 مليار جنيه، وبالتالي سيؤثر على عائد الدولة واقتصادها ككل، ويعمل على زيادة الدين العام لديها؛ ما سيؤدي على المدى البعيد إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في مصر أكثر.
ويوضح د. قاسم أن تلك الخسائر الفادحة التي تنتظر مستقبل الشركة المصرية للاتصالات، على الرغم من أنها شريك أساسي في كعكة المحمول من خلال أسهمها في شركة "فودافون" حتى إذا ما تكبدت خسائر فادحة هي تتوقعها، يوجد ما يسندها من الأرباح في مساهمتها في شركة فودافون، ولكن الخاسر الحقيقي هنا هي الحكومة المصرية والاقتصاد المصري.
أرباح طائلة !
ويتفق النائب تيمور عبد الغني عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين بمجلس الشعب وعضو اللجنة الاقتصادية مع سابقيه في أن شركات المحمول حققت أرباحًا طائلة خلال الفترة السابقة؛ من خلال فتحها لأبواب العروض المغرية، والتي شابها الكثير من الإعلانات المضللة حتى تجذب أكبر عدد من المستهلكين، في الوقت الذي توجد فيه الشركة المصرية للاتصالات بشكل واهٍ في ظل التوجه الحكومي العام لاقتصاد السوق، ولجوء الناس إلى الاستغناء عن الخطوط الأرضية نتيجة ارتفاع أسعاره وسوء خدمته.
وأوضح تيمور أن تلك الشركة المملوكة للحكومة والتي أُنشئت لتقدم الخدمات للمواطنين بأسعار مقبولة؛ احترفت سياسة رفع الأسعار حيث حققت صافي أرباح في عام 2009م تتجاوز 4 مليارات جنيه، نهبًا من جيوب المواطنين، مقارنةً بعام 2008م والذي وصلت أرباحها فيه إلى 2.79 مليار جنيه مصري (492.2 مليون دولار).
واستنكر تيمور القرارات التي تُصدرها الحكومة المصرية، والتي تهدف إلى تعظيم ربح هذه الشركات على حساب المواطن المصري، مشيرًا إلى أن ذلك يكشف فشل الحكومة في إيجاد إيرادات حقيقية عن طريق تعظيم الإنتاجية، فلجأت إلى جيوب الشعب المصري، مشيرًا إلى أن قطاع الاتصالات يعد من القطاعات المهمة من حيث نسبته في الناتج المحلي، وعلاقته بالنمو في القطاعات الأخرى؛ ما ينبئ بخسائر فادحة على مستوى الاقتصاد المصري إذا ما ازدادت أعداد المنسحبين من الخطوط الأرضية الثابتة.
وانتقد تيمور غياب الرقابة على قطاع الاتصالات وانهياره داخل القطاع الرسمي، مشيرًا إلى أن القطاع يشوبه الكثير من التجاوزات والانحرافات، التي تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد القومي، ويُعد إهدارًا للمال العام، مؤكدًا ضرورة فرض رقابة صارمة عليه حيث إنه يُدر دخلاً كبيرًا وموارد ضخمة على الاقتصاد.
مصالح شخصية!
ويضيف الدكتور جهاد صبحي أستاذ الاقتصاد بكلية التجارة جامعة الأزهر قائلاً إن الاقتصاد المصري لا يتماشى مع النظرية الاقتصادية، ويتحكم فيها مجموعة من رجال الأعمال همهم مصلحتهم الخاصة فقط، مشيرًا إلى أن كل قرار أو قانون يتم استحداثه يعبر بذلك عن مصالحهم الخاصة فقط.
ويلمح د. صبحي إلى أن الحكومة ليس لديها خطة استراتيجية للاقتصاد كباقي الأنظمة الاجتماعية والسياسية والفكرية؛ لذلك فإن النظام الاقتصادي في مصر يسير بالبركة، بالرغم من أن رجال الأعمال ليس لهم علاقة بالبركة، موضحًا أنه نتيجة لتحكم رجال الأعمال في الاقتصاد بذلك الشكل فإنهم يتحكمون في منظومة الأسعار لدى المحمول؛ لتحقيق أقصى أرباح ممكنة لهم دون مراعاة لظروف المستهلكين.
ويوضح أن عملية الاتصال في مصر بدأت بجنيهين كسعر للدقيقة، ثم جنيه ونصف إلى أن وصلت الآن في ظل تحرير سعر الدقيقة إلى 8 و5 قروش في الشركات، مرجعًا ذلك إلى أن تحديد الدقيقة لم يكن طبقًا لنظرية العرض والطلب، ولكن طبقاً لعلاقة الشركة بالحكومة ومدى الود "والجمايل" التي بينهما.
على الجانب الآخر يشير د. صبحي إلى أن الشركة المصرية للاتصالات تُدار من جانب الحكومة؛ حيث إن نسبة أسهمها فيها تتجاوز الـ51%؛ ولذلك فهي لا تحقق أيًّا من مصالح الشعب، ولم تواكب المنافسة التي توجد بالسوق المصرية الآن، مشيرًا إلى أن المنتفع عندما يجد نفسه أمام خدمات سيئة ومرتفعة التكلفة، لا يجد سبيلاً سوى اللجوء إلى الشركات المنافسة، وبالتالي فإن الشركة المصرية للاتصالات لم تستفد من تلك المنافسة، وستخرج بخسائر فادحة خاصةً أنها قامت بتحقيق أرباح طائلة لوجودها في السوق منفردة.
وقال إن الأحرى بالشركة المصرية للاتصالات أن تُقبل على تخفيض سعر التكلفة وليس رفعها؛ حيث إنه كان يتم دفع الفواتير مرتين فقط في العام قديمًا، أما الآن فأصبحت 4 مرات مما يزيد العبء على المستهلك لازدياد التكلفة بما يقارب 200%؛ ولأن المنتفع بالخدمة يدفع تكاليف أساسية باهظة دون أن يستخدمها في الاتصال تصل إلى 130 جنيهًا في الشهر، والتي من الممكن أن تعوضه شركات المحمول بتوفير خدمة أفضل بنفس سعر التكلفة.
ويشير د. صبحي إلى أن الشركة المصرية للاتصالات غطَّت التكلفة الحقيقية للدقيقة منذ عشر سنوات، فالأولى بها أن تقدم خدمات طبقًا للتكاليف المتغيرة لها فقط وليست الثابتة؛ لأنها عما قريب لن تجد مشتركين، وخاصةً أن الحكومة تنادى بالإصلاح الاقتصادي منذ التسعينات ولم تتخذ فيه خطوة تذكر، وتساءل د. صبحي مستنكرًا التخبط الحكومي في مجال الاتصالات: هل تنوي الحكومة بيع الشركة المصرية للاتصالات لأحد رجال الأعمال الكبار؟!