الصدق
يحكى أن رجلا كان يعصي الله -سبحانه- وكان فيه
كثير من العيوب، فحاول أن يصلحها، فلم يستطع، فذهب إلى عالم، وطلب منه
وصية يعالج بها عيوبه، فأمره العالم أن يعالج عيبًا واحدًا وهو الكذب،
وأوصاه بالصدق في كل حال، وأخذ من الرجل عهدًا على ذلك، وبعد فترة أراد
الرجل أن يشرب خمرًا فاشتراها وملأ كأسًا منها، وعندما رفعها إلى فمه قال:
ماذا أقول للعالم إن سألني: هل شربتَ خمرًا؟ فهل أكذب عليه؟ لا، لن أشرب
الخمر أبدًا.
وفي اليوم التالي، أراد الرجل أن يفعل ذنبًا آخر، لكنه
تذكر عهده مع العالم بالصدق. فلم يفعل ذلك الذنب، وكلما أراد الرجل أن يفعل
ذنبًا امتنع عن فعله حتى لا يكذب على العالم، وبمرور الأيام تخلى الرجل عن
كل عيوبه بفضل تمسكه بخلق الصدق.
ويحكى أن طفلا كان كثير الكذب، سواءً
في الجد أو المزاح، وفي إحدى المرات كان يسبح بجوار شاطئ البحر وتظاهر بأنه
سيغرق، وظل ينادي أصحابه: أنقذوني أنقذوني.. إني أغرق. فجرى زملاؤه إليه
لينقذوه فإذا به يضحك لأنه خدعهم، وفعل معهم ذلك أكثر من مرة.
وفي إحدى
هذه المرات ارتفع الموج، وكاد الطفل أن يغرق، فأخذ ينادي ويستنجد بأصحابه،
لكنهم ظنوا أنه يكذب عليهم كعادته، فلم يلتفتوا إليه حتى جري أحد الناس
نحوه وأنقذه، فقال الولد لأصحابه: لقد عاقبني الله على كذبي عليكم، ولن
أكذب بعد اليوم. وبعدها لم يعد هذا الطفل إلى الكذب مرة أخري.
ما هو
الصدق؟
الصدق هو قول الحق ومطابقة الكلام للواقع. وقد أمر الله -تعالى-
بالصدق، فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}
[التوبة: 119].
صدق الله:
يقول الله تعالى: {ومن أصدق من الله قيلا}
[النساء: 122]، فلا أحد أصدق منه قولا، وأصدق الحديث كتاب الله -تعالى-.
وقال تعالى: {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} [الأحزاب: 22].
صدق
الأنبياء:
أثنى الله على كثير من أنبيائه بالصدق، فقال تعالى عن نبي
الله إبراهيم: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقًا نبيًا} [مريم: 41].
وقال
الله تعالى عن إسماعيل: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان
رسولاً نبيًا} [مريم: 54].
وقال الله تعالى عن يوسف: {يوسف أيها
الصديق} [يوسف: 46].
وقال تعالى عن إدريس: {واذكر في الكتاب إدريس إنه
كان صديقًا نبيًا} [مريم: 56].
وكان الصدق صفة لازمة للرسول صلى الله
عليه وسلم، وكان قومه ينادونه بالصادق الأمين، ولقد قالت له السيدة خديجة
-رضي الله عنها- عند نزول الوحي عليه: إنك لَتَصْدُقُ الحديث..
أنواع
الصدق:
المسلم يكون صادقًا مع الله وصادقًا مع الناس وصادقًا مع نفسه.
الصدق
مع الله: وذلك بإخلاص الأعمال كلها لله، فلا يكون فيها رياءٌ ولا سمعةٌ،
فمن عمل عملا لم يخلص فيه النية لله لم يتقبل الله منه عمله، والمسلم يخلص
في جميع الطاعات بإعطائها حقها وأدائها على الوجه المطلوب منه.
الصدق مع
الناس: فلا يكذب المسلم في حديثه مع الآخرين، وقد روي أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (كَبُرَتْ خيانة أن تحدِّث أخاك حديثًا، هو لك مصدِّق، وأنت
له كاذب) [أحمد].
الصدق مع النفس: فالمسلم الصادق لا يخدع نفسه، ويعترف
بعيوبه وأخطائه ويصححها، فهو يعلم أن الصدق طريق النجاة، قال صلى الله
عليه وسلم: (دع ما يُرِيبُك إلى ما لا يُرِيبُك، فإن الكذب ريبة والصدق
طمأنينة) [الترمذي].
فضل الصدق:
أثنى الله على الصادقين بأنهم هم
المتقون أصحاب الجنة، جزاء لهم على صدقهم، فقال تعالى: {أولئك الذين صدقوا
وأولئك هم المتقون} [البقرة: 177].
وقال تعالى: {قال الله هذا يوم ينفع
الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله
عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} [المائدة: 119].
والصدق طمأنينة،
ومنجاة في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (تحروا الصدق وإن رأيتم
أن فيه الهَلَكَة، فإن فيه النجاة) [ابن أبي الدنيا].
ويقول النبي صلى
الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن
الرجل ليَصْدُقُ؛ حتى يُكْتَبَ عند الله صِدِّيقًا، وإن الكذب يهدي إلى
الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل لَيَكْذِبُ، حتى يكْتَبَ عند
الله كذابًا) [متفق عليه].
فأحرى بكل مسلم وأجدر به أن يتأسى برسول
الله صلى الله عليه وسلم في صدقه، وأن يجعل الصدق صفة دائمة له، وما أجمل
قول الشاعر:
عليك بالصـدق ولــو أنـــه
أَحْـرقَكَ الصدق بنـار
الوعـيـد
وابْغِ رضـا المـولي، فأَشْقَـي الوري
من أسخط المولي وأرضي
العبيــد
وقال الشاعر:
وعـوِّد لسـانك قول الصدق تَحْظَ به
إن
اللسـان لمــا عـوَّدْتَ معــتـادُ
الكذب:
وهو أن يقول الإنسان
كلامًا خلاف الحق والواقع، وهو علامة من علامات النفاق، يقول النبي صلى
الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا
ائتمن خان) [متفق عليه].
والمؤمن الحق لا يكذب أبدًا، فقد سئل النبي صلى
الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: (نعم).
قيل: أيكون المؤمن
بخيلا؟ قال: (نعم).
قيل: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: (لا) [مالك].
والكذاب
لا يستطيع أن يداري كذبه أو ينكره، بل إن الكذب يظهر عليه، قال الإمام
علي: ما أضمر أحد شيئًا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه.
وليس هناك
كذب أبيض وكذب أسود، أو كذب صغير وكذب كبير، فكل الكذب مكروه منبوذ،
والمسلم يحاسَب على كذبه ويعاقَب عليه، حتى ولو كان صغيرًا، وقد قالت
السيدة أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها- لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا
رسول الله، إذا قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه، يعدُّ ذلك كذبًا؟ فقال
صلى الله عليه وسلم: (إن الكذب يكْتَبُ كذبًا، حتى تُكْتَبَ الكُذَيبَة
كذيبة) [أحمد].
وعن عبد الله بن عامر -رضي الله عنه- قال: دعتني أمي
يومًا -ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا- فقالت: تعالَ أعطِك،
فقال لها: (ما أردتِ أن تعطيه؟). قالت: أردتُ أن أعطيه تمرًا. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لو لم تعطِه شيئًا كُتِبَتْ عليك كذبة)
[أبوداود].
الكذب المباح:
هناك حالات ثلاث يرخص للمرء فيها أن يكذب،
ويقول غير الحقيقة، ولا يعاقبه الله على هذا؛ بل إن له أجرًا على ذلك، وهذه
الحالات هي:
الصلح بين المتخاصمين: فإذا علمتَ أن اثنين من أصدقائك قد
تخاصما، وحاولت أن تصلح بينهما، فلا مانع من أن تقول للأول: إن فلانًا يحبك
ويصفك بالخير.. وتقول للثاني نفس الكلام...وهكذا حتى يعود المتخاصمان إلى
ما كان بينهما من محبة ومودة.
الكذب على الأعداء: فإذا وقع المسلم في
أيدي الأعداء وطلبوا منه معلومات عن بلاده، فعليه ألا يخبرهم بما يريدون،
بل يعطيهم معلومات كاذبة حتى لا يضر بلاده.
في الحياة الزوجية: فليس من
أدب الإسلام أن يقول الرجل لزوجته: إنها قبيحة ودميمة، وأنه لا يحبها، ولا
يرغب فيها، بل على الزوج أن يطيب خاطر زوجته، ويرضيها، ويصفها بالجمال،
ويبين لها سعادته بها -ولو كان كذبًا-، وكذلك على المرأة أن تفعل هذا مع
زوجها، ولا يعد هذا من الكذب، بل إن صاحبه يأخذ عليه الأجر من الله رب
العالمين.
المسلم لا يكذب في المدح أو المزاح:
وقد حذَّر النبي صلى
الله عليه وسلم أناسًا منافقين يمدحون مَنْ أمامهم ولو كذبًا، فقال صلى
الله عليه وسلم: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) [مسلم].
وهناك
أناس يريدون أن يضحكوا الناس؛ فيكذبون من أجل إضحاكهم، وقد نهى النبي صلى
الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (ويل للذي يحدِّث بالحديث ليضحك به القوم؛
فيكذب، ويل له، ويل له) [الترمذي].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم
بيت في رَبَضِ الجنة (أطرافها) لمن ترك المراء وإن كان مُحِقَّا، وبيت في
وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وبيت في أعلى الجنة لمن حَسُن
خلقه) [أبوداود].
وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- إذا سمع من يمدحه
يقول: اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني
خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون